يوميات مصاب بالكورونا /حيدر محمد الوائلي

أحد, 22/03/2020 - 08:04

في اتصال لصديق عزيزٍ على القلب انبأني بخبرٍ أفرحني آخره مثلما أحزنني بدايته وتفاصيله. وعندما تكون النهايات مفرحة فلتكن بها بداية الموضوع فببقية التفاصيل ألم وحزن وحيرة.

انبأني انه قد تعافى للتو من الكورونا.

كانت هذه فقرة الفرح بكل بساطة. أربع كلماتٍ تختصر الموقف.

 

صدمة أن تتلقى هكذا اتصال وسط شحن نشرات الاخبار ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي تأخذك ذات اليمين وذات الشمال تلاعباً بالمشاعر وحرقاً بالاعصاب ونشراً للأشاعات يكون فيها قائل الصدق كالسائر بطريق الحق، يستوحشه لقلة سالكيه، ففي الحق موقف شجاعة وذكاء صناعة وفكر براعة.

لا يحتاج الواعي للكثير من الشرح فالوعي رصيد كبير وخبرة سنين يوفر عليك جهود الفزع ويعطيك حكمة التصرف عند الهلع.  

هذا ماوفر على صديقي القديم وعزيزي الدائم كمية الفزع وسريان الهلع لهياج الآلام عالجها بغزارة من التصرف الحكيم.

 

في بلدٍ اسيوي حيث يقيم دارساً كان الأمل شهادة دراسية تعزز رصيد المعرفة وتغذي الروح بجمال العلم.

ذات يوم من أيامٍ يداولها الله بين الناس بدأت بالطفل الصغير أعراض جديدة غير مألوفة، ارتفاع درجة حرارة جديدة لا تنخفض ولا تستقر، قراءات المحرار عالية واستمرت في علوها ايام متتالية قاربت الاسبوع دون أن تنخفض رغم إعطائه الكمية القصوى من خافضات الحرارة.

لم يكن يومها سارياً خبر انتشار الكورونا بصورة كبيرة في ذلك البلد ولكنه موجود وكان الوعي تجاه هذا المرض الجديد قليل جداً.

 

خشيت خشية المُلقي بنفسه للتهلكة أن أدخله المستشفى لعلمي فيما عَلِمت أن سيتم الحجر عليه في وحدة حجرٍ مشتركة حيث كان تسجيل الحالات المصابة يفتقر للدقة وللجدية وللمهنية المواكبة لحجم الخطر.

قلت في نفسي إن كان الحجر ضرورة فأحجره في بيتي، فبيت أبيه احب اليه من جوار انفجارات سعال الأجانب وصراخ اوجاعهم في لغة مفهومة للجميع ولا تحتاج لترجمة أن هنالك أمرٌ خطير.

في البيت كان حجر أمه فراشه وحجابها بطانيته ودموعها قصة ما قبل النوم.

سعال شديد ومستمر واختناق يأتي ويروح. كان لابد من أثر قوة انفجار السعال أن تتطاير حمم من الرذاذ لتحط على وجه أمه.

هذا السعال سعالٌ جديد لم يبدأ بسيطاً ويتفاقم في الأيام التالية بل كان سعالاً شديداً من يومه الأول يكلم الناس في المهد خطورة محدقة لشيء جلل.

سعال جاف وطويل ولا يهدأ الا بعد هياج الصدر من قوة السعال المستمر والمنبعث من أعماق الصدر خانقاً النفس يضطره احياناً للتقيأ.

في احدى مرات نوبات سعاله، تطاير رذاذ منه داخلاً لعيني أمه وفي نوبة أخرى تساقط رذاذه على إحدى اذنيها لدى التفاتها جانبا.

في الصباح التالي استيقظت الام لترى عينيها حمراوتين، ليس احمر ما يسقط في العينين فتتهيج باحمرار طبقي ولكنه احمرار بتهيج اورده منتفخة حمراء مخيفة كخطوط ممتدة ومتشابكة حولت بياض العين لتجمع خيوط دموية كرسم خطوط خارطة بتفاصيل دقيقة. أما الأذن فكان فيها حرارة كبيرة والم اكبر.

كانت هذه علامة عدوى تنتشر، فهل من مدكر؟!

زاد بكاء الطفل الصغير، فعند الذهاب لتفقده وجدت عينيه حمراوتين ذات شكل احمرار عيني امه. حسبتها ظناً انه قد فرك بيديه الملوثتين بفايروساته عينيه فسكنها ما سكن عيني امه.

كان الذهاب لطبيب العيون ضرورة قصوى وأضطرار من اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه.

البست نفسي وأهلي وطفلي كماماتٍ علها تقي من الضرر بالإضافة للبس كفوف تغطي اليدين حيث كنت تسوقت كل ذلك مبكراً سابقاً الأحداث.

 

في عيادة طبيب العيون الخاصة عرف أخصائي العيون أن الامر خطير. أن هذا التهاب فايروسي كبير فكتب له علاجاً من أقوى قطرات عينية مضادة للفايروسات وعند الأنصراف منه رأيت كادر العيادة يهرع لتعقيم كافة أجهزة الفحص.

صار الضحايا اثنين، طفل صغير وأم مكسورة الجناح. ولأن العدو صغير ولا يُرى فانتقل عبر الاثير وقرب السرير لاخيه الكبير واخته الأكبر. سقطا ضحية للعدوى في المسكن الصغير وبمرور أيامٍ صرت اخر الضحايا. بدأ الكورونا الصغير بالصغير ليأتي من ثم أتى على الكبير.

 

توجد في هذا البلد الاسيوي رعاية صحية جيدة. حيث بدأ الوعي تجاه هذا الوباء يزداد ويكبر لدى متابعتي للموقف بوقف نشاطات والغاء تجمعات وتحديد تحركات وافهام الاهالي. ما حصل لي شخصياً أن ألمّ بي دوار وإرهاق كبيرين وحمى شديدة ولكن وربما لما تحمّل جسمي من ويلات محن العراق السابقة (هكذا خُيِّل لنفسي تهكماً) أن جهازي المناعي حارب الكورونا وقتلها قبل أن تسري على ما سرى على بقية اهلي. فكلها يوم أو اثنين وعدت على خير ما يرام بينما استمرت بالبقية اعراض المرض مؤلماً وطويلاً.

 

عندما تصاب بنزلة برد فالأعراض تبدأ تدريجياً بالارهاق البسيط وأحياناً مع سعال خفيف يبدو كأنه منبعث من الحنجرة.

في نزلة البرد عادة ما تتهيج الحنجرة وتحس بها تتورم شعور خشن يراودك عند البلع.

في نزلة البرد عادة ما تعطس ويصدر الأنف كثيراً من المخاط السائل ابيضاً غائم اللون  يتحول بمرور يومين او ثلاثة الى لونٍ مقارباً للخضار ويصبح ثخيناً.

في نزلة البرد عادة ما يحصل انسداد بفتحتي المنخرين تعالجها ببخاخات وقطرات معروفة لفتح الأنف.

في نزلة البرد يكون ارتفاع درجة حرارة قليل الحدوث ولو حصل فيستقر بسرعة.

 

اما الكورونا فالاعراض تبدأ قوية ومفاجئة وكبيرة. سعال من أعماق الصدر قوياً جداً وجافاً ولا يتوقف بسهوله الا بعد أن يقطع النفس ويشحط البلعوم ويأتي بأختناق.

درجة حرارة مرتفعه جدا أقلها بحوالي 38 درجة تقل قليلاً وتزداد كثيراً هذا مع استخدام خافضات الحرارة. قليل وكثير درجة حرارة جسم الأنسان تحسب بالتفاصيل العُشرية.

 

لا يوجد في الكورونا تهيج في الحنجرة او حصول علامات التهاب فيها كما لا يوجد مخاط كثير وواضح ولا يحصل انسداد في الأنف كما لا يوجد عطاس الا ما ندر. ربما لا ترفع الكورونا درجة حرارة البعض بصورة مستمرة ولا تبدي عليهم اعراض سعال مستمرة لقوة جهازهم المناعي ولكن بما أنك قريب جداً منها وببيتٍ واحدٍ مع مصابٍ فيها فأعلم أنها فيك.

كان ذلك من تجربتي الشخصية ومن معلوماتٍ اطلعت عليها لاحقاً توافقت مع ما حصل معي.

 

كان ظني الذي صار يقيناً لاحقاً أن العدوى جائت للطفل عند ذهابي به والعائلة لصالة العاب إلكترونية كبيرة ومشهورة حيث يرتادها الكثير من العائلات. كل لُعبة فيها ازرار وعصي تحكم والأطفال يلعبون ويستمتعون. منهم من يضحك ومن يتكلم ومن يبكي ومن يعطس ومن يسعل وكلها حالات يتطاير فيها رذاذ من الفم ليكون محط رحاله أجهزة اللعب.

كنت قد لمحت إغماءة لعاملة تعمل في صالة الألعاب. كانت المسكينة قد وقعت على الأرض منهارة من حمى اصابتها فلم افكر بالأمر سوى أن المسكينة أعياها مرض ما ألمّ بها ولا تقدر على مواصلة العمل.

الان عرفت أن هذه الصالة كانت بؤرة عدوى.

 

في الكورونا يصبح الحجر ضرورة قصوى لأن عدوى هذا الفايروس كبيرة جداً.

الحجر حصار لابد منه. كنت قد عشت حصار التسعينات في العراق. ذقت مره وجوعه وعوزه الشديد وسنين محنته. في ذلك الحصار الأقتصادي كنت فتى على ابواب المراهقة وبالكاد أعتاش على قليل من الطعام الشحيح. كان لعب الشارع خير وسيلة للنسيان.

الحجر في الكورونا حصار لابد منه. تحجر على نفسك كي لا تعدي غيرك بكل بساطة. تناول جرعة يومية من فيتامين سي لزيادة قوة المناعة وإن لم يوجد فالكثير من فواكه الحمضيات.

في الحجر يكون التنظيف واجباً عينياً ودقيقاً بمواد تعقيم مع تهوية المكان للسماح بتدوير الهواء ولدخول هواءاً منعشاً يلطف الجو وينقيه.

الكثير من خافضات الحرارة دورياً لأقصى جرعة مسموح بها حسب العمر مع عمل الكمادات الباردة لتفادي انهيار الوضع في ارتفاع درجات الحرارة المستمر.

 

اليوم أصبح الوعي اكثر وربما تتولى المستشفى الأمر عند تفاقم الأعراض وعدم السيطرة عليها. ولكن في حالتي كان بيتي مشفاي.

اقول (ربما) تتولى المستشفى الأمر والظن أن تكون مستعداً لو أصبت (لا سامح الله) فمع زيادة الحالات وفرق الأولويات فمن المحتمل أن يكون الحال حجر وعلاج منزلي مثل حالي حتى مع تفاقم الأعراض لعدم قدرة المستشفيات على تلبية جميع الحاجات.

 

كثيراً من الصبر وقليلاً من القلق. يجعل منك القليل من القلق انساناً عطوفاً مهتماً بينما كثيره يؤدي بك للجنون.

واضب على غسل اليدين بانتظام وكثيراً. استخدم معقمات اليد الفورية حال تعذر غسل اليدين.

 

استمرت رحلتي وعائلتي مع الكورونا قرابة الخمسة وعشرين يوماً، كل يوم فيها طويل جداً وتحدي جديد وليل مُرهِق.

لا وقت للوقت، فأمور تستجد وأمور تصعب وأحياناً تسهل ومشاعر يصعب شرحها والله عليم بذات الصدور.

 

تماثلت للشفاء اولاً كما ذكرت حيث عانيت من أقل الأعراض ولم تؤثر فيّ كثيراً سوى ليومٍ أو اثنين وحسب، ومن ثم تماثلت زوجتي وطفلي الصغير والأكبر منه للشفاء على فترات متقاربة، بقيت ابنتي الكبرى اخر من تماثلت للشفاء حيث عانت من اعراض الكورونا كثيراً هي الأخرى.

 

اليوم بدأ يتفشى الوعي حول هذا المرض. هذا مرض سريع الانتشار ولكن من الممكن جداً السيطرة عليه بإتباع الأرشادات الصحية.

إن نسبة الشفاء من الكورونا عالية جداً جداً في ما عدا بعض الحالات التي تعاني من أمراض القلب والسكر وأمراض المناعة والأعصاب وكبار السن حيث يؤثر فيهم المرض كثيراً.

 

في الكورونا احجر نفسك ولا تخبر أياً كان بمصابك خصوصاً اذا كنت خارج الوطن وخصوصاً في مجتمعاتنا حيث ستحاك القصص ضدك وتلفق الحكايات عليك ومنهم من يضيف ويزيد من عنده. اكتفي بالقليل ممن تثق بوعيه وحكمته فالنفس تحتاج أن تبوح بألمها وتنفس عن همها وتحتاج أن تستشار.

عدوى الجهل عندنا اكثر انتشاراً بمليون مرة من انتشار عدوى الكورونا.

 

عند بداية الأعراض فضروري جداً أن تحجر نفسك واسكت حتى تشفى. من المهم التكلم مع طبيب مختص عند الأصابة خصوصاً عند تفاقم الأعراض وصعوبة السيطرة عليها. ولتجنب الكورونا وتسلم من الأذى فتجنب التجمعات والزيارات الأجتماعية واعتذر بأي عذر مناسب وكن حذراً عند الخروج للضرورة.

 

من حسنات الكورونا و(اذكروا محاسن موتاكم) كما يقال، أن تعطيك تجربة لخوض حرب. ربما تكون بعض الحروب ممتعة خصوصاً إن كان عدوك صغيراً جداً فتستهزأ به أول الأمر ولكن عندما يضربك ويوجعك فعندها تنتبه ان هذا الصغير المُستَهزأ به مؤلم ومزعج ومعدي فحكّم العقل لمقاومته وأعدد خطة دفاعية.

 

من حسنات الكورونا أن تعطيك مناعة ضده وربما ضد أمثاله من الفايروسات مستقبلا حيث يصبح الجهاز المناعي للمتماثل للشفاء من الكورونا مستعداً للمقاومة حيث صارت لديه مناعة مضافة وخبرة.

من حسنات الكورونا أن ترى نفسك طبيباً ومعلماً وخطيباً وممرضاً ورجل شرطة ومنظفاً ومدير سجن وعامل بلدية وطباخاً ماهراً جداً وعامل مطعم. كل تلك المهام في شخص واحد تتناوب المهام حسب الحاجة والضرورة.

من حسنات الكورونا أن قربت العائلة اكثر وصار اللعب المنزلي المفقود من فترة لعباً جميلاً ممتعاً استمرينا عليه حتى بعد الشفاء والخروج من المنزل.

 

سينتهي الكورونا مثلما انتهى غيره من فايروسات مستجدة سابقة والنتيجة أننا كائنات ضعيفة لمخلوقات متناهية الصغر فلا تتكبر ولا تتجبر ولا تتبختر وأحذر. تواضع ولا ترفع انفك على الناس فلعل هذا الأنف من هول ما ألم به من مرضٍ وألمٍ يتكَسر.

قد اعذر من أنذر، وأنصَف من حذّر.

 

استمر اتصالي بصديقي قرابة الساعتين وهو يسرد لي ما حل به وتبادلنا الحديث والضحكات والنكات والذكريات الجميلة القديمة، فقلت في نفسي لما لا اكتب قصته فينتفع بها غيره، فأتصلت به مرة ثانية عارضاً عليه الفكرة بعد أن كتبت مسودتها وأرسلتها له فوافق عليها واستحسن الفكرة.

 

عندما كنا على وشك انهاء الأتصال ولطبع فينا نحن العراقيين ان نردد ونكرر عبارات الوداع عند النهاية مثل تكرار عبارات التحية عند البداية (الله وياك، في امان الله، انشوفك على خير، الله وياك، الله وياك، الله وياك، سلمنا وياك دير بالك على نفسك مع السلامة حياك الله...الخ) واحياناً نضيف لها تراكيب صوتية لكلمات لا معنى لها (ثيما الله، هلا هلا مع الس الس اسة في حيا حلاولالك...الخ) فسمعت من خلفية اتصاله اصوات اطفال يضحكون بصوتٍ عال. قلت له طبعاً هؤلاء أطفالك.