
توتر عابر، أم بداية تصدع تدريجي في علاقة نواكشوط بالجبهة؟ لا تبدو الأجواء بين الطرفين صافية تماما، وفي قلب ذلك يكمن سؤال كبير وهو، هل يستطيع الموريتانيون اليوم أن يغلقوا أعينهم ويصموا آذانهم عما يجري حولهم من تطورات إقليمية متسارعة، واختراقات مهمة في ملف الصحراء؟
المؤكد أن الجواب طبعا لا، وذلك يعني أن الكيل قد طفح بهم، وأنهم وجدوا أنفسهم وبعد أكثر من أربعين عاما على اعترافهم بالبوليساريو، أمام الحاجة الملحة لأن يغيروا، إما كليا أو جزئيا من قواعد التعامل معها؟ ربما دل البرود النسبي الذي طفا على السطح مؤخرا بين الجانبين، وأعقبه تدخل جزائري حازم لإعادة الأمور ولو نسبيا إلى نصابها، إلى رغبتهم في القطع مع الأسلوب الذي طبع طوال الفترات السابقة علاقتهم بذلك التنظيم. لكن ما الذي جرى في هذه الأثناء؟ وما الذي قد يكون الطرفان الموريتاني والجزائري بالدرجة الأولى قد اتفقا عليه في المرحلة المقبلة؟
لقد تناقلت وسائل الإعلام أخبار الحوادث التي باتت تتكرر من حين لآخر، إما على حدود موريتانيا، أو داخل ما تعرف بالمنطقة العازلة في الصحراء، وكان من بين ضحاياها مدنيون موريتانيون، دخلوا تلك المناطق، وحسب عدة روايات للتنقيب عن الذهب، لكن تلك المسألة ظلت مع الغموض الكبير الذي رافقها أشبه باللغز، ما فتح باب التأويل على مصراعيه، وجعل كثيرين يتساءلون عن الطرف المستفيد من تلك الحوادث، وما إذا كانت هناك جهة تقف وراءها، أو تدفع نحوها بهدف ضرب أي تقارب موريتاني مغربي، عبر الترويج للاستهداف المتعمد للطائرات المغربية المسيرة عن بعد للموريتانيين، لا في المنطقة العازلة، بل حتى داخل التراب الموريتاني نفسه، وهو ما نفته السلطات المحلية أكثر من مرة.
في الجانب الدبلوماسي كان واضحا أن البوليساريو بدأت خصوصا في الشهور الأخيرة بمراكمة الخسارات الواحدة تلو الأخرى
ويبدو أن تكرر تلك العمليات دفع نواكشوط لمحاولة وقفها، والأرجح أنها أبلغت جيرانها بأن صبرها بدأ ينفد، وأنها ليست مستعدة لأن تستمر في غض الطرف عن النشاطات المريبة لجبهة البوليساريو، لا فقط على مرمى حجر من حدودها، بل حتى داخل أراضيها. ومن الواضح أن رسالتها وصلت بسرعة إلى الجزائريين، الذين باتوا حريصين أكثر من أي وقت مضى على أن يحافظوا على روابطهم معها، خصوصا مع تدهور علاقاتهم بدول الساحل، ولأجل ذلك فقد تعاملوا مع القلق الموريتاني بجدية تامة، نازلين بثقلهم لمنع توسع رقعة خلاف كان من الصعب توقع المدى الذي قد يأخذه. غير أنه ليس معروفا ما الذي عرضوه على الموريتانيين من تعهدات، أو تطمينات بعدم تكرر الاختراقات، التي حصلت داخل حدودهم من جانب عناصر البوليساريو، لكن الزيارة التي قام بها الجمعة الماضي وفد عن الجبهة إلى نواكشوط، وسلم خلالها رسالة من زعيمها إبراهيم غالي إلى الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وكانت في الواقع ثمرة جهد دبلوماسي مكثف بذلوه في الأيام الأخيرة نحو العاصمة الموريتانية، حملت ربما جزءا بسيطا من الجواب. فقد ضم الوفد الزائر تماما، مثل الوفد الذي رافق الرئيس الغزواني شخصيات استخباراتية وأمنية، ما يعني أن تصريح القيادي حمة سلامة الذي ترأس وفد البوليساريو، وسلم رسالة غالي حول «القضايا ذات الاهتمام المشترك وسبل تعزيز الروابط القوية التي تجمع الشعبين الشقيقين، وتوطيد التعاون والتشاور والتنسيق بين الجمهورية الإسلامية الموريتانية والجمهورية الصحراوية»، التي ناقشها الجانبان، كان يعني خارج العبارات الإنشائية الفخمة شيئا آخر وهو، أنهما ركزا وبشكل أساسي على مسألة دخول وخروج عناصر البوليساريو من التراب الموريتاني، وتحركهم مستقبلا على الحدود، خصوصا بعد أن ترددت، السبت قبل الماضي، وفي عدة وسائل إعلام محلية ودولية، أنباء حول إعلان الجيش الموريتاني منطقة «البريكة» الحدودية الواقعة شمال شرق موريتانيا بالقرب من مخيمات تندوف الجزائرية، التي تتخذها البوليساريو مقرا لها «منطقة محظورة على المدنيين»، في أعقاب الحديث عن «توغل غير مشروع»، قد يكون حصل في الأسابيع القليلة الماضية لبعض العناصر المنتمية للجبهة داخل التراب الموريتاني، تحضيرا ربما لشن هجمات وانطلاقا منه على الجانب المغربي. ومع أن السلطات الموريتانية لم تنف ذلك القرار، أو تؤكده، إلا أن الثابت هو أن البوليساريو باتت تجد مزيدا من الصعوبة في استخدام الأراضي الموريتانية، لشن هجمات، أو عمليات تسلل إلى داخل الأراضي الصحراوية الخاضعة لسيطرة الرباط، خصوصا مع توسع التنسيق الموريتاني مع المغاربة.
لكن كيف دارت تلك المشاورات القصيرة بعيدا عن عدسات الإعلام؟ هل طلب إبراهيم غالي مثلا من الرئيس الموريتاني أن يرفع جزءا من تلك التضييقات ويسمح لعناصر البوليساريو وبالاتفاق مع الموريتانيين بالتحرك على الحدود؟ أم أن هؤلاء كانوا صارمين جدا في موقفهم، ووضعوا أمام وفد الجبهة ما رأوها خطوطا حمرا بالنسبة لهم وهي، احترام سيادتهم وعدم استخدام ترابهم في أي أعمال عدائية ضد أي بلد آخر؟ لا شك في أن الظرفية التي تم فيها اللقاء ألقت ظلالها على الاجتماع، على مستويين اثنين على الأقل، ففي الجانب الدبلوماسي كان واضحا أن البوليساريو بدأت خصوصا في الشهور الأخيرة بمراكمة الخسارات الواحدة تلو الأخرى، إذ قبل أيام قليلة فقط من وصول وفدها إلى نواكشوط، تم الإعلان عن زيارة وفد مغربي إلى سوريا ومعاينته مع السلطات السورية غلق مكاتب البوليساريو هناك، تمهيدا لإعادة فتح السفارة المغربية في دمشق، ثم حل بعدها وزير الخارجية الكيني بالعاصمة المغربية ليوقع بيانا مشتركا مع نظيره المغربي، أقرت فيه كينيا التي كانت من أكبر المؤيدين للبوليساريو، بأن خطة الحكم الذاتي للصحراء، التي يقترحها المغرب هي «الحل الواقعي الوحيد، الذي يمكن التعويل عليه والقابل للاستمرار» لذلك المشكل. ولم يكن هناك أدنى شك في أنه لم يكن ممكنا للطرفين ألا يأخذا كل تلك التطورات بالاعتبار، وألا يضعا في الميزان الزخم الكبير الذي بدأ يأخذه المقترح المغربي للمشكل الصحراوي، والذي بلغ الأحد الماضي حد إقرار دولة أخرى عضو بمجلس الأمن هي بريطانيا، بأن ذلك المقترح، «يعد الحل الأكثر واقعية وبراغماتية» لتسوية النزاع. أما على المستوى السياسي فلم يكن بمقدور موريتانيا بالخصوص، ألا تنظر بقلق إلى ما يجري في الإقليم، خصوصا على الطرف الآخر من حدودها مع مالي، وإلى ما يمثله ذلك الوضع من تهديدات مضاعفة على حدودها الشمالية بالخصوص. لكن هل يعني ذلك أن البوليساريو، قبلت بالأمر الواقع وأنها ستنكفئ الآن داخل مخيمات تندوف وستحني رأسها للعاصفة؟
لا شك أن التفاهمات الحقيقية حول تلك المسألة حصلت بين الموريتانيين والجزائريين، ومن هنا فإن لقاء وفد الجبهة بالرئيس الموريتاني ربما كان شكليا بالدرجة الأولى، وجاء لحفظ ماء الوجه والبحث عن نصر دبلوماسي وإعلامي أكثر من أي شيء آخر. لكن هل ستكون نواكشوط قادرة على فرض شروطها وإقناع الجزائر بأنها قد غيرت من قواعد تعاملها مع البوليساريو؟ سيكون هذا المحدد الأساسي لعلاقة الطرفين غدا.
نزار بولحية
كاتب وصحافي من تونس