
ماذا يمكن للمرء أن يفكر حين يلقي نظرة على أسرّة المستشفيات، وعلى الفصول المهددة بالانهيار حيث يتكدّس عشرات الأطفال كما تُكدّس السردين في علبة معدنية، وعلى صفوف المرضى المغادرين عبر معبر روصو أو مطار نواكشوط، وعلى عناصر التفتيش الطرقي وهم يُدخلون رؤوسهم في مقصورات سيارات الأجرة أو الحافلات، وعلى الأكوام الهائلة من المواد الغذائية المنتهية الصلاحية، وعلى البُسط الملطّخة بالأوراق النقدية الملقاة على الراقصين وهم يستعرضون مهاراتهم على بعد مئة متر فقط من عائلات لم تجد ما تأكله؟
لا يمكن إلا أن نخلص، مهما وُصفنا باليساريين أو المتطرفين أو المجانين، إلى أننا نحن البيظان لم نكن قادرين على بناء دولة. فهل سنلقي بالمسؤولية على المكوّنات الاجتماعية ـ الإثنية الأخرى في البلد؟ ذلك سيكون ضرباً من عدم الأمانة، لأننا لطالما تباهينا بكوننا الأغلبية لتبرير الاستحواذ على مقاليد الحكم. هذا البلد يحمل فوق ذلك اسمنا، بعد أن كان يسمى “ارض البيظان” ثم مستعمرة بالاسم نفسه. وأكثر من ذلك، استفدنا نحن من النصيب الأكبر من ريع السلطة، ريعٍ أسأنا توظيفه حتى أصبح مهدداً لنا بالهلاك، عبر إحداث شقّ أفقي قاتل في صفوفنا.
فهل سنكون قادرين على منع البداوة من أن تأخذ ثأرها منا بما تحمله من عدم استقرار نفسي، وسلوكيات فوضوية، وعصبية، وعجز عن الخضوع لمتطلبات الوفاء بقواعد العيش في المدينة؟ شخصياً أنا متشائم، غير أن المعجزات تظل ممكنة، حتى وإن قيل إن تحريك الجبال أهون من تغيير طبيعة البشر.
ديمقراطية مستنسخة
يمكن للمرء أن يتصور أن التغيير الذي نحتاج إليه يتطلب قدراً كبيراً من الوضوح والشجاعة ونكران الذات، وهي خصال منحتها الطبيعة، عبر التاريخ، لقلة نادرة من الرجال كانوا الثمرة الطبيعية لشعوب واعية وشجاعة.
في الرسالة المفتوحة التي وجهتها مؤخراً إلى السيد الوزير الأول، حاولت أن أحدد أبرز الأسباب التي أدت، مع مرور الوقت، إلى قيام جدار فاصل بين الدولة ومواطنيها. من بين هذه الأسباب: المركزية المفرطة للسلطة، اختفاء الوظيفة العمومية والموظف العمومي باعتبارهما ركناً دائماً من أركان الدولة، الليبرالية المتوحشة التي أفضت إلى خصخصة عشوائية لقطاعات حيوية، حلّ المؤسسات العمومية التي كانت تمثل رافعات الدولة، و”الديمقراطية المستنسخة” التي كان أثرها العكسي هو تعزيز السلطات الإقطاعية ـ الاستعبادية، وغير ذلك.
ن نستطيع مواجهة الآثار المدمرة لهذه الخيارات إلا إذا تسلحنا بالشجاعة لإعادة النظر فيها بلا عقد، خاصة وأنها وُضعت موضع تساؤل من قبل أولئك الذين تبنوها وروّجوا لها. فالقوى الكبرى التي تدّعي الديمقراطية هي نفسها اليوم أول من يتجاوز مبادئ حرية التجارة والصناعة، واحترام حقوق الإنسان، والشفافية الانتخابية، وحياد السلطة العمومية. فلماذا علينا أن نستمر في التمسك بأطلال عالم متداعٍ لن نكون أبداً صورته المطابقة؟ لدينا مراجع أخلاقية وثقافية ودينية أخرى ينبغي أن نستخرجها ونُعيد تفعيلها، لكن ذلك يقتضي الحد الأدنى من الثقة بالنفس ومن الخيال التكيفي.
ولهذا، يجب أن ننطلق، ليس من فرضية، بل من حقيقة مثبتة، وهي أن أيّاً من خياراتنا، بما في ذلك خيار ما يُسمى بالديمقراطية، لم يكن استجابة لطلب موضوعي صادر عن شعبنا.
فلنبدأ باستعادة احتكار الدولة لاستيراد المواد الغذائية التي ينبغي مراقبة جودتها لحماية مواطنينا من المنتجات الفاسدة التي تسببت في آلاف حالات السرطان وأمراض خطيرة أخرى. كما يجب تعزيز المفوضية المكلفة بالأمن الغذائي عبر إنشاء وكالة للرقابة الصحية على المنتجات الغذائية. أما جمعيات حماية المستهلك التي أنشأتها شخصياً سنة 2002 فقد جرى تحييدها وأصبحت عاجزة عن الفعل.
وعلى الدولة أن تدعم ما لا يقل عن عشرة منتجات أساسية وأن تحدد أسعارها وهوامش أرباحها، كما كان الحال في عهد الشركة الوطنية للاستيراد والتصدير (سونيمكس). فلا يمكننا، من أجل إرضاء الدول التي أنشأت منظمة التجارة العالمية، أن نترك مواطنينا يموتون بالامتناع عن دعم المنتجات الحيوية، في حين أن هذه الدول نفسها تقوم بذلك.
لا مساواة قاتلة
في مجال آخر، من الضروري الفصل بين الطبّ الخاص والطبّ العام، وذلك عبر منع الأخصائيين ــ ما لم يكن في إطار عقد مضبوط بدقة ــ من العمل في الهياكل الصحية العمومية. ويجب أن يرافق هذا الفصل رفع ملموس في رواتب الكوادر الصحية للدولة. كما يتعيّن على الدولة أن تستعيد احتكار استيراد الأدوية ومراقبتها كما كان الحال في زمن “فارماريم”، لأن أغلب الأمراض اليوم ناتجة عن الأدوية المزوّرة التي تستوردها الشركات الخاصة.
في المجال التعليمي، يجب إلغاء التعليم الابتدائي والثانوي الخاص بالكامل، لأنه قد ينتج ويعمّق لا مساواة قاتلة. يجب أن يحتكّ أبناؤنا بعضهم ببعض، أن يتقاسموا الأفراح والأحزان، وأن يشعر أبناء العائلات الميسورة برائحة الفقر، وأن يحلم الجميع بعالم واحد مشترك. أما التعليم العالي والتقني، فيمكن أن يكون مجالاً للاستثمار الخاص.
القطاع البنكي يمثل جرحاً غائراً في النظام الاقتصادي الوطني، لذا من الضروري أن تستعيد الدولة السيطرة على البنوك عبر حيازة أغلبية الأسهم، وأن يتم دمجها وتخصيصها، بدل أن يستمر تكاثرها الفوضوي الذي أدى إلى ابتذال خطير.
أما في مجال التوظيف، فيجب إنشاء وكالة وطنية، كما في الماضي، تتولى إحصاء طالبي العمل، وتنظيم مسابقات الولوج للوظائف، ومراقبة احترام مبادئ الشفافية والمساواة بين المواطنين. ويُستحسن أن يكون هناك نص دستوري يضمن ألا يتمكن أي مواطن من الحصول على وظيفة عامة أو خاصة إلا عبر مسابقة مفتوحة أمام كل المرشحين المؤهلين، بعد الإعلان عنها بشكل مسبق.
في مجال الحوكمة السياسية، ينبغي أن تكون مراجعة الدستور فرصة لحصر عدد الأحزاب السياسية في اثنين أو ثلاثة فقط، مع استحداث هيئة وطنية سامية تُكلَّف برعاية المصالح الاستراتيجية للدولة. كما يمكن لهذه المراجعة أن تعيد الاعتبار للمحكمة العليا بمنحها صلاحيات المجلس الدستوري، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومجلس الفتوى، ما يقلل من الأعباء المالية الناجمة عن نظام حكم بالغ الكلفة.
إن تطبيق هذه التوجهات يتطلب إصلاحاً جذرياً لوضعية السلك القضائي، بما يعالج نقائصه المعروفة وحاجته الماسة للتصحيح. فالإصلاحات التي أُجريت في الثمانينيات لم تُعزز ثقة الموريتانيين في نظامهم القضائي، بل على العكس؛ فزيادة عدد القضاة بفعل سياسة التعريب المتسارع لم تُواكبها أيّ تحسينات نوعية. وزاد الطين بلّة الانعكاسات السلبية لتحوّل القيم إلى سلعة عالمياً، وهو ما لوّث مجمل الخدمة العمومية.
اليوم، سواء أردنا أم لا، فإن الموريتانيين يتطلعون بعمق إلى نظام قضائي أكثر مصداقية. ولتلبية هذا التطلع، سيكون من المفيد تنظيم مسابقة وطنية يخضع لها جميع القضاة، على أن تُشرف على تصحيحها نخبة من علماء الأزهر وأساتذة قانون تونسيين. ويتم توزيع الناجحين إلى ثلاث فئات: ثلث يُحتفظ به في المحاكم، وثلث يستفيد من تكوين إضافي لثلاث سنوات، وثلث يُحال إلى التقاعد مع صرف الرواتب المتبقية ومنح حق التقاعد.
أما معالجة مشاكل موريتانيا بغير هذه الطريقة، فمهما كانت النوايا حسنة، فلن تكون سوى محاولة عبثية لمناقشة كيفية طرد الدخان دون الالتفات إلى النار!