موريتانيا : الضجيج أصبح نجمًا والعقل متفرجًا والتفاهة ...

أحد, 12/10/2025 - 19:39

في عالم اليوم، لم يعد الضجيج عرضًا جانبيًا، بل صار نجم الحفل؛ صوته يملأ المنصات، وصورته تتصدر الشاشات، بينما يقف العقل في الصفوف الخلفية يصفق، على استحياء لمن سلب مكانه.
لم تعد القيمة تُقاس بالفكر، بل بعدد المتابعين، ولا تُكرَّم الفكرة الجادة إلا إذا لبست ثوبًا لامعًا من التفاهة.
صار المشهد مقلوبًا: المضمون غريب في أرض الشكل، والحكمة تُهمس في زمن يقدّس الصخب.
حين دخلنا القاعة، استقبلتنا مقاعد وثيرة، ألوان أنيقة، وشاشة عملاقة تلمع كنجمة في ليل نواكشوط. كان المشهد يوحي بأننا على موعد مع عرض فكري راقٍ أو حوار جادٍّ من طراز رفيع.
لكن المفارقة أن هذه القاعات الفخمة كثيرًا ما تتحوّل إلى منصات لاستعراض «اللاشيء» في أبهى حُلله. وكأنَّ الزمان يقول: «ما دام الشكل متقنًا فلا يهم إن كان المضمون تافهًا».

صعود التافهين.. وسقوط القيم

في موريتانيا تتصاعد الشكاوى من احتلال التفاهات الصدارة في كل شيء: الكاتب محمد عبد الرحمن الشيخ وصف بوضوح هذا المشهد حين قال إن وسائل التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها «تيك توك»، تحولت إلى «أسواق للتفاهة»؛ حيث يقاس النجاح لا بالإبداع ولا بالإتقان، وإنما بعدد الإعجابات والمشاهدات.
أصبح الشاب الموريتاني يحقق نجوميته عبر رقصة قصيرة أو تحدٍّ فارغ يجذب الإعلانات، بينما يظل زميله الذي يتقن عملاً جادًا في الصفوف الخلفية.

حين تصبح التفاهة نظامًا

الباحث محمد الأمين الفاضل يذهب أبعد من ذلك، فيرى أننا نعيش اليوم صراعًا جديدًا: التفاهة مقابل الجدية؛ وهو صراع غير معلن لكنه مصيري.
لم يعد صراع اليساريين مع القوميين، ولا المعارضة مع الموالاة، هو ما يشغل الرأي العام؛ فالذي يوجَّه المجتمع هو منصات التواصل، حيث الخوارزميات تعمل لصالح السطحية، وتكافئ الضجيج على حساب العقل.
والخطر كما يقول الفاضل، ليس في وجود أشخاص تافهين، فهذا طبيعي في كل زمان، بل في تحوّل التفاهة إلى دولة ونظام متكامل يوجّه الأذواق، ويحدد من هو النجم ومن هو المهمّش.

دولة التافهين.. علامات الظهور!

ورصد الفاضل يرصد علامات «قيام دولة التافهين» في موريتانيا، عبر مظاهر منها رجال أعمال يطاردون المؤثرين لتسويق منتجاتهم، سياسيون يتسابقون إلى تلميع وجوه سطحية عجزوا هم عن منافستها، وصالونات ومجالس تتناقل سخافات الفيديوهات القصيرة بدل النقاشات الجادة.
وفي مفارقة مضحكة مبكية، نجد عالِمًا موريتانيًا جليلًا يشرح أهم مؤلف فقهي، يضيء بعلمه عقول الشباب، لكن لا يتابعه على فيسبوك سوى 15 شخصًا، معظمهم من طلابه وأقاربه؛ وفي الجهة الأخرى، يقف «تيكتوكر» لا يملك من أدوات العلم إلا رقصاته المقلَّدة، يحصد في ساعات 40 ألف متابع، ويصبح نجمًا تتنافس الشركات على استضافته في دعاياتها.
هذه الصورة وحدها كافية لفهم معنى «عصر التفاهة»: حين يصبح التافه قائدًا للرأي، ويُترك العالم الجاد وحيدًا في زاوية النسيان، وكأننا نعيد صياغة المثل الشعبي ليصبح: «من اجتهد انكتم، ومن رقص اشتهر».

قاعة بلا فكر.. مجتمع بلا بوصلة

هنا تلتقي رؤية الفاضل مع تحذيرات ولد الشيخ، ومع أقوال مفكرين كبار كتشيخوف الذي قال: «إذا رأيت التافهين يعلون في مجتمع، فاعلم أنه مجتمع فاشل»، وعلي الوردي الذي أكد أن من يكرّمهم المجتمع هم مرآة مستقبله الحضاري؛ فإذا كان مجتمعنا يرفع شأن أصحاب المحتوى الفارغ، فهذا لا يبشّر بخير.

هل من سبيل إلى مقاومة التفاهة؟

لا يكتفي الفاضل بالتشخيص، بل يقترح خطوات عملية منها تجاهل المحتوى التافه تمامًا، حتى بالنقد، لأن أي تفاعل يُعزز انتشاره، وإلغاء متابعة «نجوم التفاهة»؛ ومقاطعة السلع والخدمات التي تُسوّق عبرهم؛ ودعم المحتوى الجاد، مهما كان بطيء الانتشار.
أما ولد الشيخ فيذكّرنا بأن الثقافة الأصيلة هي خط الدفاع الأول ضد طوفان السطحية، مستشهدًا بقول إدوارد سعيد: «الثقافة هي ما نصنعه في مواجهة التفاهة».

الخلاصة.. معركة مصيرية

القضية ليست ترفًا ثقافيًا ولا مجرد سجال أكاديمي. نحن أمام معركة حقيقية: فإما أن تنتصر الجدية، ويستعيد المجتمع ذائقته، أو تنتصر التفاهة، فنجد أنفسنا ـ كما يقول الفاضل ـ على “خشبة مسرح عبثي كبير”، يصفق فيه الجمهور للسخافة وصنّاعها.
إن السؤال المطروح اليوم ليس كيف نُزيّن القاعات ونرفع جودة الإضاءة؟، بل: «أي نوع من الفكر نضع على منصاتها؟». فالقاعة الجميلة التي تستضيف محتوى تافهًا، إنما تُشبه سفينة فاخرة تتجه بسرعة نحو هاوية سحيقة.

القدس العربي